Friday 23 November 2007

علامات على الدرب لديمتري أفييرينوس

علامات على الدرب

ديميتري أفييرينوس

(1)

وأنت تطأ الدرب،
صُنْ إيمانك،

صُنْ رجاءك،

صُنْ سرِّية خطواتك الأولى.

*

الدنوُّ من أول الدرب هو لقاء الحياة...

ولقاء الحياة كالدنوِّ من نمر مفترس...

هذا اللقاء، متى آن أوانه، قد يصيب مقتلاً ممَّن يحاول التهرُّب منه!

*

الدرب الحق، الذي لا يتميَّز عن حياة كل يوم، هو التعمُّق في معرفة النفس وفي معرفة الإنسان والكون، ولا يبلغ منتهاه إلا حين تنطفئ "الأنيَّة"، ومعها موكب مخاوفها، وتناقضاتها، وعنفها...

إذ ذاك – وإذ ذاك فقط – تبدأ المغامرة الكبرى:

اكتشاف للَّحظة لا ينتهي!

*

ولوج مسكن الأبدية لا يتم إلا في حياتنا هذه.

فإذا كنَّا نصمُّ آذاننا عن سماع النداء الآن كيف نرجو سماعه في ظلمة القبر؟!



الفجر ينير لك آلاف السبل...

لا يهم كثيرًا أيها تختار،

فالغسق سينسيك إياها جميعًا!



الدرب سالك كل حين، لكننا نؤثر المرح والثرثرة، لا نعبأ ولا نبالي. وعندما يجيء وقت الحساب والدموع نلقي بالتبعة على الظروف، ونصلب من يذكِّرنا بإهمالنا.



الدرب من الطول والوقت من القصر بحيث لا مجال للوقوف عند تعلُّقات عقيمة.

دعك من كلِّ من لا يفهم صمتك ولا يفقه شيئًا من كلامك – بلا وطر ولا ندامة.



يا رفيق الدرب!

يا أخ الطريق!

لا بدَّ أن يأتيك أحد الأذكياء ساعة الشدة، فيطرح عليك أمَرَّ الأسئلة: "ما فائدة سيرك على الدرب؟!"

فلتكن إجابتك قصيرة، جافة جفاف عظمة أيبستْها الشمس: "لا شيء البتة! ومع ذلك فما ثمة درب أخرى تغريني!"



كثيرًا ما يُحكَم على المتوحِّدين بأن لا نفع فيهم، لا بل بأنهم ضارون. يقال فيهم إنهم لا يفعلون شيئًا وإن أيامهم تتمطى في اجترار أحلام كسولة.

حكمٌ كهذا لا ينقصه إلا... خاتَم التجربة!



بين الحين والآخر يأتينا غريب، كتاب، حلم، فيحدثنا عن سرِّ القلب. لكن هذا الزائر لا يخلِّف وراءه غالبًا إلا حنينًا إلى آفاق رحبة، قصيَّة، مجهولة، نستشفها للحظة... لنعود بعدئذٍ إلى تسالينا الحمقاء.

*

(2)

مع أن الإخلاص للحقيقة يترك للمرء حرية اعتناق المذهب الذي يشاء وحرية القيام بكل ما يتوافق ومذهبه فإنه يشترط عليه دومًا التمييز بين العَرَض والجوهر.
*

الحرية الخارجية جحيم حينما تُمنَح لقلب سجين.

*

الحقيقة كامنة في كتب الحكمة.

لكنك عبثًا تقرأ كتب الحكمة ظنًّا منك أنك واجد الحكمة فيها يومًا.

*

ليست الحقيقة اكتشافًا.

إنها إبداع!

*

كل ما تبحث عنه لا بدَّ أنك واجده يومًا.

ابحث عن اللذة... وستجدها.

ابحث عن السعادة... وستجدها.

أما إذا عقدت العزم على البحث عن الحقيقة فيجدر بك أن تكفَّ البحث عن كلا اللذة والسعادة.

*

قال الأناني: "كيف تفرح الدنيا وأنا حزين؟!"

قال الغيري: "كيف أفرح والدنيا حزينة؟!"

وقال الله: "كفى! أنا لا أفهم شيئًا مما تقولان!"

*

اذهبي، يا حمامة، وقولي لمولاي إنني لن ألبي نداءه قبل أن أصفِّي آخر حساب في ذمَّتي لهذا العالم المجنون.

*

سؤال كامل... ولا ألف جواب ناقص.

*

جحيم حقيقي... ولا فردوس وهمي.

*

لا شيء يخفى على قلب ملتهب.

*

الدرب ليس دينًا، ولا فلسفة، ولا علم نفس، لكنه يتقاطع والدين، والفلسفة، وعلم النفس.

الدرب فن تعلُّم معرفة النفس – فن الحياة.

*

كيف يعرف نفسَه من نفسُه ليست مرآةً لنفسه؟!

*

مسؤوليتُنا الأولى والأخيرة معرفة أنفسنا.

*

(3)

معرفة النفس ممكنة.
معرفة عارف النفس متعذَّرة.

*

قاعدتان للسير على الدرب:

1.
مفتاح الصعوبة معلق على بابها.

2.
إن تقفْ وأنت تسير تعثَر.

*

الضيِّق عميق، لكنه غير مفهوم.

الواسع مفهوم، لكنه ضحل.

ألا من يدلُّني على ضيِّق واسع؟!

*

المنطق، بمفرده، يستثني الكشف. لكن الكشف ينبغي أن يشمل المنطق.

*

من ذا الذي زار حلمي على متن مركبة من نار ولامس بأنامله الأثيرية جبيني؟!

*

محيَّاك، طفلتي، يتهلَّل فرحًا...

ومقلتاك تشعان نورًا...

أية رؤيا استولت على قلبك وأخذتك مني؟!

*

يزعم المؤمنون بأن الله يندم.

يزعم المؤمنون بأن الله يغضب.

يزعم المؤمنون بأن الله يفضِّل أمَّة على أمة.

أي تجديف هذا! أي كفر!

*

ما ذنبنا إن كنَّا، بلا عقائد ولا شعائر، جعلنا من كل حركة قربانًا ومن كل كلمة صلاة، فرجمنا راجمو استفانوس؟!

*

كيف يصلِّي من يجهل أن جسده هو هيكل الصلاة؟!

*

لماذا ينوحون أمام حائط؟!

لماذا يتبرَّكون بعظام شخص مات منذ قرون؟!

لماذا يضربون ظهورهم بالسلاسل؟!

لماذا لا يكفُّون عن استجداء مادِّيات تستعصي عليهم منذ قرون؟!

...

الإيمان الأعمى يجعل الإنسان عبدًا للوعود...

لكن أنَّى لعبد الوعود أن يعرف أنه عبد؟!

*

السهم قد يخطئ الهدف أو يصيب.

إذا أخطأ لا يهم كثيرًا مقدار الخطأ.

كذلك، ليس هناك "مراحل" على طريق الحرية:

فإما أن نكون أحرارًا...

وإما أن نبقى عبيدًا.

*

العبودية... عملٌ لا شعر فيه.

*

العمل تحثُّه المحبة يتم بجناحين.

العمل يحثُّه الواجب يتم بعكازين.

*

(4)

الحكمة، على كونها فاعلة أبدًا في الكون وفي البشر، لا سلطان لها على غبائنا.
*

أحلامنا كثيرًا ما تطير على أجنحة الحكمة...

سألت ذات مرة صيادًا عجوزًا:

-
إذا دهمك نوٌّ عاتٍ وأنت في عرض البحر ماذا تفعل؟

-
أطوي الأشرعة، أربط السِّكان، أخلي سطح المركب، وأذهب إلى فراشي.

وفي ليلة أخرى، في مرفأ آخر، فيما أنا متردِّد في المضيِّ في رحلة بعيدة، مرَّ بي رجل مثخن بجراح قاتلة وبادرني مبتسمًا:

-
لا شيء يستحق أن يمنعنا من الذهاب إلى حيث نريد... لا شيء البتة!

*

يا تجار الأفكار! إذا جُرِّدتم من سلعكم، ترى ماذا يتبقى منكم؟!

*

كلما تفوَّه أحدهم بكلمة "سعادة" – أو أحد مرادفاتها – وجدنا أنفسنا نزحف إليه، مستعدين لازدراد كل النفايات السياسية والدينية والفلسفية للعالم.

ألا اشهد يا أفلاطون!

هكذا يتوهم العالم، بدون أن يخطو خطوة واحدة، أنه يخرج من الكهف!

*

البندقية بيد، ماركس أو فرويد أو القرآن باليد الأخرى، نأخذ على عاتقنا مهمة تغيير العالم.

أما إشعال نار الثورة في فكرنا، والسير بدون الاكتفاء بأية "حقيقة" جاهزة قوتًا، فذلك ضرب المغامرات الذي لا نطيق أن نسمع به – نحن، بناة المعابد، غزاة الفضاء، مدمِّروا الكواكب!

*

إذا كنَّا نقول عمَّن يطالب: "يجب القضاء على الفقر، يجب الحدُّ من التلوث، يجب تجنب اللجوء إلى العنف، إلخ" إنه حالم، خيالي، ماذا ترانا نقول عمَّن يشير علينا: "انظروا في دواخل نفوسكم وضعوا حدًّا للفوضى فيها!" – ماذا ترانا نقول عنه؟!

*

نحن نعلم المفاتيح التي يستعملها ذوو السلطان والأبواب التي يقتحمونها.

لكن هذا كلَّه لا يساوي شيئًا، ولا يشرِّف الصورة الإلهية في الإنسان.

*

كل ما يأتينا ترافقه الأبواق والطبول سرعان ما يرحل عنَّا تجلِّله الخيبة.

*

يصعب في الواقع تمييز نبلاء هذا العالم من وضعائه.

كثير من سادات هذا العالم أخسَّاء، بينما يموت كلَّ يوم، في أكواخ مظلمة، أمراءٌ حقيقيون.

*

أية كآبة كانت كآبة العصر الحجري، بدون النفط، بدون القنابل النووية و"الذكية"، بدون حرب النجوم!

أي فراغ كان فراغ دماغ الإنسان بدون أفكاره التي تنتشر اليوم وتفتك على نحو أخطر من طاعون الأمس!

*

يعبِّر النسبي بلغة النسبي، ويعبِّر المطلق بلغة المطلق – وفي هذا غبطتهما.

أما الإنسان فيعبِّر عن النسبي بلغة المطلق، وعن المطلق بلغة النسبي – وفي هذا شقاؤه.

*

تعالوا إليَّ أيها الباحثون عن المعرفة.
تعالوا إليَّ أيها التواقون إلى الحرية.

وأنا أزيدكم جهلاً فوق جهل... وقيودًا على قيود...

*

الخير ليس أبدًا ما نرغب فيه.

*

قشة في العين،

فتضطرب الرؤية.

رغبة واحدة،

وتستعصي السماء.

*

الحياة بلا مطامح ليست بالبساطة التي تبدو عليها. إذ ماذا يتبقى منَّا بدون همومنا وأوهامنا؟!

*

بكلمة واحدة نأمل بتغيير نظام الكون.

عميان... ونتحدث عن النور.

صفر الأيدي... ونحلم بتغطية العالم بالأزهار...

هل ثمة ما هو أسوأ من ذلك؟!

*

مَن يجيبني على هذه الأسئلة: "مَن يفكِّر؟"، "كيف؟" و"لماذا؟"، فأشهد له بألوهية الفكر!

*

غالبًا ما نختلق لأنفسنا مُثُلاً نحققها وغايات نسعى إليها دون أن نسأل "مَن" سيحقق المُثُل و"مَن" سيبلغ الغايات!

*

الجدول يجري،

ومياهه تشدو...

فلم تسأل عن منبعه؟!

*

وجودنا، كل آنة، محبة الله المتجدِّدة لنفسه!

*

العمر قصير... فلم نضيِّعه في التنقُّل بين وهم وآخر؟!

*

ما نحن إلا شرذمة من الأغبياء تتلهَّى بالاقتتال على غيمة عابرة تدفعها ريح هوجاء، وفوق رؤوسنا سماء بديعة، شاسعة، لانهائية، تتسع لكلِّ شيء.

*

في أعماق كلِّ وهم يخفق قلب الإنسانية التائق إلى الحقيقة.

*

في سكينة الليل تصاعد نغم ناي حزين، ثم تبعه في تصاعده نحو النجوم مرافقًا نداءٌ حارق:

إلهي! أين أنت؟!

أجاب الناي:

ما من إله متوارٍ "هناك" يفرح معك بالوردة التي تتفتح، أو يكفكف دموعك عندما تنحني أمام القبور... لا أحد يشاركك صمت الليالي المريرة أو يراقصك على وقع الندى... لا أحد البتَّة!

هو نغم يقين أوحد: لا مناص لنا من السير بمفردنا. لسنا بحاجة إلى عكازات، وما كنَّا بحاجة إليها يومًا.

*

أتدري ما هو بساط الريح؟!

هو قميصك – جسمك الذي ترتديه – ساعة تجتاحك غبطة علوية.

*

إلى أين أنت ذاهبة يا فتاة؟

إنك تومئين إليَّ بعينيك الساحرتين أن أتبعك...

لكن دربي، يا فتاة، ليست دربك...

وحياتي ليست حياتك...

وغايتي التي أطلب ليست غايتك...

ولكن...

إلى أين تمضين يا فتاة؟!

*

ما أصدق من قال إن المرأة لا روح لها!

ذلك لأن المرأة هي الروح نفسها.

*

(5)

من على صخرة شاهقة أتأمل البحر.
لا أبصر في الأفق شراعًا.

في سماء يتصدَّرها القمر انطفأ وجه الحبيب.

الحب، كالشهاب الخاطف، لا يدع لنا وقتًا إلا لأمنيَّة.

*

نظرة... أعمتني

وجه... حَجَبَ عني محيَّاك

من أجل سكرة تلتها غصة

نسيت رياح عرض البحر...

ويحي!

*

اشتهاؤك خلود من تحب يكافئ اشتهاءك موته.

*

من أجلكِ كنتُ أُجري في الصحراء أنهارًا...

ومن القصر الذي كنَّا نقضي فيه ليالينا

كانت ألوف النوافذ مشرعة على اللانهاية...

وبين الأيائك المزهرة

كانت السباع تلهو مع الغزلان.

أما اليوم، يا محبوبة،

فما أنتِ في قلبي إلا جثة هامدة!

*

وحدكِ، يا فتاة، قبلتِ صعود الجبل معي. وحدكِ قبلتِ أن تكوني دليلتي بين شعابه المتلوِّية.

ولما بلغنا القمة، والإعياء قد نال منَّا، فارقتِني عائدة إلى السفح وأنت تقولين: "لا بدَّ أن أعود، فمهمتي معك انتهت. هناك غيرك أزفت ساعة صعوده الجبل."

ورحت أرقبك وأنت تنحدرين...

يا لتضحيتك العظيمة!

*

لطالما حاول الجمال رشوة الجسد ليحصل على جواز العبور إلى الروح، ناسيًا أن خفراء الحدود بينهما أيقاظ الضمير.

*

أشد أنواع ضعفنا يسكن جسدنا.

لكننا بدونه لن نبلغ قلب الحياة.

*

الجهاد ضد ضعفنا لا يخرج عن نطاق غرورنا المقنَّع.

أما اجتثاثه من جذوره فشأن آخر: هو آخر الشؤون التي نهتم لها.

*

لا تُدِنِ الضعف ساعة التجربة قائلاً: "إنه لا يليق بي!"

ولا تسوِّغه، بالمثل، قائلاً: "لتكن مشيئة الحياة!"

انظر فحسب – بدون إدانة ولا تسويغ.

ذلك هو الطريق إلى جذور الكينونة.

*

هناك طيور تدَّعي الحكمة.

إنها تقبع بين أوراق الشجر، ضامرة الأجنحة، في مأمن من الريح.

*

التحديق!

حدِّق في الجرذ حتى يزول الاشمئزاز منه.

حدِّق في المرأة العارية حتى تنطفئ الرغبة فيها.

حدِّق في الشجرة حتى تقطف ثمارها.

حدِّق في الرمز حتى يُسِرَّ إليك بمعناه.

...

التحديق هو سرُّ النظر.

*

لا تكون اللذة براءة صرفًا إلا يوم نكف عن التفتيش فيها عن المعرفة.

فالتفتيش عن المعرفة لا يصحُّ إلا في الألم.

*

ما أصعب أن نتخلَّى عن أوهامنا!

ما من أحد يرغمنا على هذا التخلِّي؛ وحده الموت يملك هذا السلطان، لكنه يبقى في نظرنا مقدورًا بعيدًا شبه منسيٍّ. فقبل أن تأزف ساعته ما ثَمَّ إكراه، بل حرية ترعبنا.

لما كنَّا صغارًا كانت الظلمة تفزعنا. أما اليوم فالنور هو ما نخاف!

*

(6)

أليس من العجب أن لكلٍّ منَّا، في ذهنه، ندًّا يثرثر معه؟!
*

لدى كلٍّ منَّا، في رأسه، مقبرة سرية يحرص عليها، فيوقظ، بين الفينة والفينة، أمواته من سباتهم، ويُسِرُّ إليهم بمكنونات صدره، وينتزع منهم كلمات هي أصداء لرغباته، قبل أن يعود ويُلْحِدَهم من جديد.

لدى كل منَّا مقبرة كهذه، يحرسها بكلِّ ما أوتي من قوة. بشواهد قبورها يواجه الحياة، وفيها يندب مصائبه، ويسوِّغ لنفسه جبنه.

هناك، بين أشباح الماضي، نعيش جلَّ تلك الفسحة التي ندعوها العمر.

*

أيا قلبي، لا تتحامق!

كفَّ عن الحرث والبذر

في رماد الماضي.

*

الذاكرة مقبرة هائلة يتظاهر فيها الأموات بأنهم ما زالوا أحياء.

*

العنصر الرئيسي في الوعي الشخصي هو الماضي.

ما نتوهَّمه اللحظة الحاضرة إنْ هو إلا بناء جديد بلبنات قديمة.

*

الماضي هو مجرد جزء من الذاكرة، لا يمكن أن نحياه من جديد؛ وهو غير موجود كواقع حي. المستقبل لم يحدث بعد؛ وهو بالتالي، كالماضي، غير موجود. هناك فقط اللحظة الراهنة... الآن. فلنكن هنا... الآن. فلنحيَ كلَّ يوم بيوم، بلا قلق ولا ندامة.

*

كنت غارقًا في تأمل ماضي حياتي، فإذا بصوت يجعلني أجفل. التفتُّ إلى ناحية الصوت لأجد طفلاً يحملق فيَّ. فكرت قلقًا: "أهو الأمس، أم هي صور يومٍ آتٍ؟ هل أنا رجل يتنكَّب أحلام طفل، أم أنا طفل يحلم أنه رجل؟"

حدَّق واحدنا في الآخر طويلاً...

كان لا بدَّ لأحدنا أن يموت.

وحتى هذه الساعة ما أدري أيَّنا قد مات!

*

الذي يعلم ما سوف يحدث غدًا عرَّاف.

الذي يعلم ما يحدث "الآن" حكيم.

*

لن تحيا، أخي، امتلاء الحاضر ما لم تدفن الماضي في قبر "الآن" وتئد المستقبل قبل أن يولد.

*

الطيبة هي أن نحمل على عاتقنا وزر العالم بأسره.

*

إلى الألم:

أحبك لأنك تعرِّيني.

أنت رحمة حبيبي!

*

الألم واقع، وليس بالضرورة عونًا على الخلاص.

ليس حتمًا أن يتألم الإنسان؛ فقيمة الألم نابعة من قدرته على إيقاظ النائمين!

*

حذارِ من الألم الذي يتزيَّا باللذة ويقتات بالعظمة الفارغة.

فالقرون مكتظة بالشهداء الأغبياء.

*

في إحدى الليالي العاصفة ناديت سيد المتوحِّدين، فظهر لي قائلاً:

حيثما تجد أنقاضًا ترجَّ العثور على كنز.

لم لا تفتش عن سرِّ الله في القلب المجروح؟!

*

كل "طرق" العالم تؤدي إلى روما... أي إلى مصير روما.

*

الكامل كامل.

أما الناقص فلانهائي...

*

في قلب الظلام يكمن النور.

فلا تنظر إلى الظلام بعينين مظلمتين.

*

كثير من النور يعمي كلَّ شيء – إلا النور!

كثير من الظلام ينير كلَّ شيء – إلا الظلام!

*

للنور أن يعرف ما هي النار، لكنْ ليس له أن يعرف ما هو النور.

*

يئن المسافر مبتلَّ الثياب، غير مكترث للأرض الفَرِحَة بالمطر.

إنه يرى الشجرة التي فلعتها الصاعقة، ولا يبصر روعة ضياء البرق.

*

عجيبة درب سيد المتوحِّدين!

تارة يقبِّل،

طورًا يطعن.

عديدة هي صوره:

زهرة متفتحة،

حلم وارف،

جوَّال يمضي...

لكن من ذا يقتفي فيها

خطى الصديق؟!

*

درب السكينة تنجلي

وسيف الروح يمزِّق حجاب السر

ضياء يتدفق من المحراب

وأطياف تحوِّم فوق المذبح...

تتهامس بكلام لا يُنطَق

العين ترى

والروح يشهد

أنها ترى

الروح تنطلق من نعشها

تعانق الكل...

تكون الكل.

*

(7)

- لم أعد أخشى ما يخبئه لي القدر، ولسوف أنتظر، تائهًا بين لانهايتين، أن يكلَّمني مولاي. فما قولك يا ريح؟

واصلت الريح هبوبها...

*

ليس للريح أن تقول شيئًا. قانونها هو أن تهب.

أليس قانونها هو عينه قانوننا؟!

*

مولاي!

حاشيتك تخونك.

إنهم يطاردون خادمات القصر،

يضاجعونهن،

ومن أجل زفرة عابرة

تنسُل حسرات وحسرات،

ينسون

أن كلَّ ساعة

هي ساعة خدمتك.

*

كلما أوغلنا سيرًا على الدرب تقلَّصتْ حدود الخطأ المسموح.

الخطأ البريء فجرًا قاتل عند الغسق.

*

الموت في سبيل أيِّ شيء يُفقِد الموت كلَّ روعته.

*

تتسربل البطولة بالدروع.

أما الحكمة فعارية أبدًا.

*

عبثًا توصد دونك الأبواب وترجو خلاصًا.

عبثًا تتمرغ في أوحال العالم منتظرًا منه الكلمة التي ستحررك.

*

أشجار اللوز ترقص،

نجمة الراعي تحرس الأطلال،

والمسافر يصغي، مسحورًا،

إلى همس الأشياء تمضي.

*

تحطيم الأماني بدون الهويِّ في اليأس...

الدرب لا يعلِّم غير ذلك.

*

شربنا من كأس الأمل فغصصنا.

وحين أتينا عليها حتى الثمالة بدأنا نولد من جديد.

*

استمسكي بالدرب، يا أخت الدرب.

فوحده، في هذا العالم، إشارة إلى وجود الأبدي.

*

(8)

سأصنع لجيدك عقدًا من الرؤى، حبيبتي، وأقدِّمه لك يوم ولادتي الكونية.
*

طرق هذا العالم

كالسحب...

دَعْ للريح أن تلهو بها،

ولا تهتم إلا لشؤون الحبيب.

*

إذا ضلَّ إنسان واحد طريقه فإن الآلهة نفسها تبكي.

*

انتهرتُ أصحابي: "دعوني وشأني!"

رماني بعضهم بالغرور.

هم يجهلون أنْ في ساعة التجربة وحده الذي يبتلي يخلِّص.

*

آه منك أيها العالم!

ضوضاؤك التي لا تنتهي

تطغى على همسات الينبوع...

ومع ذلك

مازلت أصغي إليك...

*

يا للروعة!

طفلة تقف على أصابع قدميها لتقطف ياسمينة...

*

طفل يلاعب قطته على العشب الأخضر...

نصح أحد الصوفية: "إذا قرع بابك جائعٌ دَعْ الله وشأنه وحضِّر الحساء!"

سأل حكيم صيني مريدًا تواقًا إلى الحقائق العميقة:

هل أكلت نصيبك من الرز؟

نعم!

فاذهب واغسل قصعتك.

إننا لا نكف عن الثرثرة حول الآلهة والأبالسة، فنعمى عن رؤية الطفل يلاعب قطته على العشب الأخضر.

*

قبل أن تصير روحك زرقاء ويتجرد البحر من لونه لا يحق لك القول إنك ترى البحر!

*

يا للعجب!

شرب زيد... فسكر عمرو!

*

أن تحب ولا تعرف أنك تحب... ذلك هو الفرح الأسمى!

*

وحدها المحبة حرة لأنها لا تختار.

*

خير من قولك "أحبك، لكني ..." قولُك "... ، لكني أحبك"، وأحسن منهما قولُك "أحبك!"

*

بلاد موحشة، لا يجرؤ أن ينزل بها أحد.

هكذا أمست المحبة!

*

لهفي على المتوهِّمين أن حاجة الإنسان إلى المنطق تفوق حاجته إلى المحبة.

*

لا تقبل الموت في سبيل أي إنسان، أو عقيدة، أو إله...

لكنْ لا تخشَ الفناء على درب المحبة!

*

المحبة لا مبرِّر لها، ولا سبب، ولا غاية.

إنها لا تميِّز بين عدوٍّ وصديق، والإخفاق، كالنجاح، لا يؤثر فيها.

إنها "تكون" عندما تنطفئ الأنا.

*

ويسألونك عن التجربة!

قل إنما التجربة ساعة ينكشف لكم فيها العالم مجردًا من كلِّ غواياته.

*

حكمة ألف كتاب

في أتون التجربة

ماذا تساوي؟!

*

(9)

يُجهِد الإنسان نفسه في تحقيق الصورة التي يرسمها عن نفسه.
أيكون الجمل الذي لا يعبأ بالسراب ويفتش عن النبع أمضى منه ذكاءً؟!

*

الشعور الكامل بالألم انعتاق منه.

*

من ذا يخبرك، قلبي، كم دهرًا ستسير على الدرب وكم من الدم ستهرق عليه؟

من ذا يعلم هل ستبلغ منتهاه أم ستقضي دونه؟

*

عندما تغيب الشمس وراء الجبال الجرداء... عندما يخيِّم ليل بهيم على الهضاب المترامية الأطراف... عندما تبصر عيني في قلب العتمة شرارة وهَّاجة يأتلق بها الكون بأسره... إذ ذاك، أعرف أنك هنا... وأنك تحبُّني.

*

حين تهب الريح

أنصِتْ إلى أغنية السماء.

وحين تهجع الريح

أنصِتْ إلى همسات الأرض.

وحين تصمت السماء وتخرس الأرض

لا تجزع!

فقد آذن الفجر بالانبلاج.

*

قطعت هاويات سحيقات

من أجل سماع صدى صوتك.

عبرت صحارى شاسعات

يملؤها صمتك.

جلست عند عتبتك

عاجزًا مستجديًا.

فلم لا تفتح؟!

*

أمام الباب طلب أحد المسافرين من الحارس أن يفتح له:

لقد ضحيت في سبيل هذه اللحظة بأحبِّ رغائبي إلى قلبي وأشهاها إلى نفسي... فافتح!

أجابه حارس الباب:

الكنز الذي أحرسه أغلى من كلِّ الأكوان. فكيف تجرؤ على طلبه بثمن بخس كهذا؟! ألا عُدْ من حيث أتيت!

*

ظللت واقفًا أمام الباب أنادي ليل نهار، حتى جاءني صوت:

دَعْ عنك فكرك ومعرفتك. انسَ أمر جهودك وثوابك. ارمِ عنك مخاوفك وأمانيك...

ففي ملكوت العراة، أي نفع من أسمالك هذه؟!

*

كالنسر المجنون

تشهَّيت القمم...

وأنا أفتش عنك

عبرت من هاوية إلى هاوية...

فمن ذا يعزِّيني

عندما تصمت

حبيبي؟!

*

متى يكون لي، حبيبي، أن أشارف لانهايتك كما تروم أنت نهايتي؟!

متى يكون لي، حبيبي، أن أكون واحدًا بك كما أنت واحد في ذاتك؟!

متى يكون توقي إلى لقائك، حبيبي، صافيًا صفاء هجرك لي؟!

متى، حبيبي، متى؟!

*

أي زمن تستغرقه ولادة مجرَّة؟!

أي زمن يستغرقه إنسان للوقوف على قدميه بمفرده؟!

*

حلمت بأني سيف ذهبي

يتأهب لمعركة فاصلة.

فإذا بك ترميني

في أتون متَّقد،

وأذوب...

أذوب...

(10)

كثيرًا ما يحدونا الأمل إلى القول: "لقد دنوت من التحقيق!"
أنَّى لنا أن نعلم ما دمنا لم نحقِّق بعد؟!

*

كفاك لهوًا!

هيا أسرع واطرد الحكماء ودعك من الطريق!

*

أيكون الشك الذي طالما هَتَكَ الحُجُبَ آخرَ العقبات؟!

*

هناك...

في صحراء قصية

حصن لا يُقتحَم

هناك يختبئ حبيبي...

سأبقى تحت أسوارك

حتى تفتح بابك.

وإذا، أمام عينيك،

استحلتُ هباءً،

ليكن لي ذلك!

*

قلبي لك أو... للفناء.

*

مذ لم يعد يرجو شيئًا

صار يرقص مع الريح...

فلنشرب، إخوتي،

نخب الحبيب...

نخب دروبه...

*

قد أحسست برعشة اللانهاية بين أضلعي...

تباركت حبيبي!

*

"
يا للكون الرهيب! يا للكون الشاسع! يا للشهب المنهمرة! يا للأفلاك الدائرة! يا للشموس المستعرة! يا للمجرات الهائلة! يا للنور الساطع! يا للظلمة الدامسة! يا للروح الكلِّي! يا للمحبة الغامرة كلَّ شيء!"

أحقًا كنتَ، يا صاحِ، تظنني أتكلم على كونٍ يقع خارج قلبي؟!

*

ويسألني قربانًا!

كيف... ووحده قربانه إليه؟!

*

متى جوبِهَت الأنا بما يفضح هشاشتها مالت إلى الهجوع، بل تظاهرت بالموت.

تلك آخر أحابيلها: البحث عن الديمومة في الفناء.

*

على الأنيَّة ، على وصيد الحقيقة، أن تُمَّحى بحيث تعجز حتى عن الخيبة.

*

أروع ما سمعت حتى الآن صوت قلب إنسان يهتف:

ربَّاه! إني أرى!

(11)

أنا الإنسان أبٌ لكلِّ ما في الوجود، وابن لكلِّ ما في الوجود...
وكلُّ ما في الوجود أبٌ لي وابن.

لولاي لما تماسك الوجود في كلِّه، ولولا الكل لما كان لي أنا أقول "أنا" – نعمتي الكبرى... وبلائي الأعظم.

فيا للغبطة التي "أنا" فيها!

*

الغبطة شعور يستوي فيه النظرُ إلى الشيء وكونُه.

*

بمعرفة عظيمة، نبصر حقيقة الأشكال.

بمعرفة أعظم، تزول الأشكال وتبقى الصور.

بالمعرفة العظمى، تذوب الصور في الأبدية... ونحن معها!

*

لم أعد أعرف من أنا.

لم أعد أعرف وجهتي.

لكن هذا – يا للعجب! – لا يحزنني.

*

اليقظة الروحية رؤية آنية لقوام الأنا!

*

ارتقاء المرء بإدراكه إلى عالم اللاشكل محرِّر حقًا. فهو يعتقه من ربقة الشكل والتواحد مع الشكل. إنها الحياة في حالتها غير المتمايزة السابقة على تفتتها إلى التعددية. سمِّه ما شئت: اللامتجلِّي، الينبوع الخفي لكل الموجودات، الكائن في الكائنات جميعًا، ... فهو عالم السكينة والسلام العميقين، لكنه أيضًا عالم الفرح والحضور الحيِّ. فكلما كنت حاضرًا صرتَ "شفافًا" للنور، للوعي الخالص، الفائض من ذلك الينبوع. عندئذٍ تدرك أن النور غير منفصل عمَّن أنت هو، بل هو جوهرك العميق وماهيَّتك الأصلية.

*

كل ما يلهمنا النقاء هو من الروح.

*

العمل هو تجلٍّ للداخل. فحيثما يكون الفكر طاهرًا، ويكون الكلام صادقًا، فإن العمل لا بدَّ أن يكون نبيلاً.

*

مثل التحرر كمثل بناء سقف البيت. فإذا لم تكن الأسس والجدران قوية انهار البيت على صاحبه!


(12)

تتعرض الإنسانية لضغط شديد لكي تتطور لأن التطور هو حظنا الأوحد للنجاة كجنس بشري. وهذا سوف يؤثر في كل مظهر من مظاهر حياتك، وعلاقاتك الحميمة بصفة خاصة. لم تكن علاقاتك قط إشكالية يغلب عليها النزاع كما هي عليه الآن. وبينما أنت تواصل دربك نحو الخلاص من خلال علاقة، على افتراض التزامك الصدق، ستتعرى من أوهامك الباطلة وهمًا وهمًا. وإذا قبلت أن علة وجود العلاقة هي إيقاظ الوعي فيك، وليست إسعادك، فإن العلاقة ستكون سبيلاً إلى الخلاص، وسوف تعقد الصلة بينك وبين ذلك الوعي الأعلى الذي يريد أن يولد في هذه الدنيا.
أما الذين يتمسكون بالنماذج البالية فلن يكون نصيبهم إلا المزيد من الوجع، والعنف، والشواش، والجنون.

*

لا تلتمس لله صورة يا صديقي.

حسبك أن تمزق الحجب.

*

ليس ثَمَّ تحرُّر "من" أي شيء.

ثَمَّ "تحرُّر" فقط!

*

كلُّ معرفة قابلة للاختزال إلى مفهوم.

وحدها الحقيقة لا تقبل إرجاعها إلى أيِّ مفهوم.

لا مناص، إذن، لمن يروم معرفة الحقيقة، من التحرر من كلِّ المفاهيم.

*

من يطَّلع على الخرائط القديمة التي استعملها الأوروبيون في العصور الوسطى، قبل أن يمضي رحالتهم مستكشفين العالم غربًا وشرقًا، يلحظ فيها أوروبا في المركز، بينما أفريقيا وآسيا عبارة عن جزر صغيرة، وأمريكا غائبة تمامًا، وعلى الأطراف عبارات غريبة من نحو: "هنا تقطن التنانين"! لقد كان على الرحالة أولاء أن يستكشفوا العالم ويتوغلوا فيه، لا في خرائطهم، فإذا بهم يكتشفون عوالم جديدة، أراضي بكرًا ما كان لوجودها قبلئذٍ أن يخطر لهم في بال.

أليس هذا عين ما نفعل اليوم من خلال النماذج الفكرية التي نتشبث بها والعقائد الجامدة التي نأبى التخلِّي عنها؟!

فهل لنا الساعة أن نعيد حساباتنا، فنحرق خرائطنا، ونمضي مستكشفين، غير مقيَّدين بشيء؟!

تسألني: كيف نجد طريقنا في موقع لا نملك خريطة له؟! ما الذي يحول بيننا وبين رسم خرائط جديدة مضلِّلة؟!

ذلك هو السؤال الذي أتركه مفتوحًا...


************







13

يتعيَّن علينا، في أمور الروح، أن نغادر بيداء الكلمات وندخل رياض الصمت.
*

إذا كنت راغبًا في محبة تتدرَّع بها ضد طعنات الزمن فابحث لك عن محبة غير محبة الحقيقة – إن وجدتها!

*

لا يملك المرء أن يأخذ من الحياة أكثر مما تقدم له لسبب بسيط هو أنها لا تقدم له أبدًا أقل من ذاتها.

*

عدم مقاومة فيض الحياة هو حالة النعمة، واليسر، والخفة. وهذه الحالة لا تتكل في ديمومتها على الأشياء، الطيب منها والسيئ. إنها حالة تكاد تنطوي على تناقض. غير أنك، بزوال اتكالك الداخلي على الشكل، تنحو ظروف حياتك العامة، الأشكال الخارجية، إلى التحسن باطِّراد. والأشياء والناس أو الشروط التي حسبت أنك في حاجة إليها لنيل السعادة تأتيك الآن بدون كدح أو جهد من جانبك، وتصير حرًّا في الاستمتاع بها وتقديرها ما دامت موجودة، ولا تتأكَّل قلبَك الحسرةُ إذا ما رُفِعَت عنك. كلُّ هذه الأشياء، بالطبع، ستتلاشى بعد حين، والأدوار سوف تأتي وتحول، لكن بزوال الاتكال يزول الخوف من فقدها إلى الأبد.

وهكذا تجري الحياة بيسر.

*

المتناهي، إذ يعمل في الكلِّ كجزء من الكل، يصبح لانهائيًّا.

*

الله ليس "أقرب إلينا من حبل الوريد".

"
إنه" حبل الوريد!

منذ قديم الزمان والمعلِّمون الروحيون من كلِّ المدارس يشيرون إلى "الآن" بوصفه مفتاح البعد الروحي للحياة الإنسانية. على الرغم من ذلك، ظل "الآن" سرًّا، بل سرُّ الأسرار. وهو قطعًا لا يُعلَّم في "بيوت الله". فإذا ذهبت إلى جامع ربما سمعت تلاوة من الذكر الحكيم يرد فيها: "كل يوم هو في شان" (الرحمن) بينما المؤمنون يجمِّدون تصورهم عن الحق في قوالب بحيث يخرج الإله منها أقرب إلى الصنم منه إلى الإله الحي. وإذا ذهبت إلى كنيسة ربما اتفق لك أن تسمع قراءات من الأناجيل من نحو: "لا يهمكم أمر الغد، فالغد يهتم بنفسه" (متى 6: 34)، أو "ما من أحد يضع يده على المحراث، ثم يلتفت إلى الوراء، يصلح لملكوت الله" (لوقا 9: 62)، أو حتى النص البديع عن زنابق الحقل التي لا تهتم للغد، بل تنزلق بيسر في الآن الدائم، فيُلبِسها الله ما هو أبهى من مجد سليمان (6: 28-9). إن الطبيعة الحقيقية لهذه التعاليم ما تزال مستورة. ولا يبدو أحد مدركًا أنها وُجِدَت أصلاً لكي يُعمَل بها ولتكون قادحة لتحوُّل عميق في باطن الإنسان.

*

الدين... للدينونة.

الحكمة... للخلاص.

*


14

إله يفهمه الإنسان إله من صنع مخيِّلته.
أما ما يفوق فهمه فهو الحقيقة.

*

ما من عمل في هذا العالم يحمل، في حدِّ ذاته، سمة الخير أو الشر، الفضيلة أو الرذيلة. وحدها صلة هذا العمل بالنفس تحمل هذه السمة.

*

اللذة تعيق؛ أما الألم فيمهد الطريق للإلهام.

*

خاطئ ذو قلب عامر بالحنان خير بما لا يقاس من قديس قسَّت التقوى قلبه.

*

الصخور نفسها تنشق وتخط الطريق لمن يحب.

*

المثال هو الوسيلة، لكن تدميره هو الغاية.

*

رغبة في الثأر رغبة في تجرع السم.

*

الموت ضريبة لا مناص للنفس من دفعها لكي يكون لها شكل واسم.

*

مَن يصعب التفاهم معه يصعب عليه التفاهم مع نفسه.

*

الطالب حقًّا لا يتوقف أبدًا عند منتصف الطريق.

إما أن يجد، وإما أن يفقد نفسه.

*

أعظم حبٍّ في الحياة هو الذي غالبًا ما يتستَّر باللامبالاة